منهجيَّة المرجعيَّة السيستانيَّة في التعامل مع التحديات العالميَّة
في ذروة الانفعال الديني، الذي يسود أوساطا اسلامية كثيرة، بسبب التعديات التي يقوم بها المتطرفون ضد القرآن ومقدسات المسلمين الكبرى، مرَّ خبر صغير لم يثر اهتماما كبيرا في وسائل الاعلام، فقد تبادلت أعلى سلطتين روحيتين في العالم رسائل عبرت عن منهجية مغيبة في مواجهة أزمات البشرية الأخلاقية والروحية.
حيث تتصاعد دعوات الوعيد والكراهية والتحريض في اجزاء كبيرة من العالم بدافع ديني وسياسي وغيرهما، ففي رسالة جوابية على رسالة بابا الفاتيكان إلى سماحته بتاريخ 3 تموز المنصرم، دعا المرجع الدينى الأعلى للشيعة الأمامية في العالم السيد علي السيستاني، الى التحلي بقدر أكبر من التسامح وحسن التعايش، بين اتباع الديانتين الاسلامية والمسيحية وبين المختلفين معهم في العقيدة والدين، كما شدد المرجع الأعلى على تضافر الجهود في سبيل الترويج لثقافة التعايش السلمي، ونبذ العنف والكراهية وتثبيت قيم التآلف ورعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين معتنقي مختلف الأديان والاتجاهات الفكرية.
يسود في عالمنا الاسلامي منهجان في التعامل مع المخاطر الفكرية والاخلاقية، والهجمات التي يقوم بها مجانين البشر ضد بعضهم البعض، المنهج الاول يرى أن العنف لا يقابل إلا بالعنف، وما من موقف عنيف يقوم به أفراد أو جماعات صغيرة ضد المسلمين، إلا وتقف وراءه أيدٍ شيطانية كبيرة وقوية (اديان، حكومات، منظمات، أحزاب، أحلاف)، ولا ينبغي التسامح مع هذه المواقف أو مواجهتها سلميا، لان الله تعالى قال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه)، فالقوة المادية وحدها والتعبئة الشاملة قادرة على حسم الامور ووضعها في نصابها الصحيح، عدا ذلك، لا قيمة لأي فعل آخر، لأنه غير نافع في عالم لا يفهم غير منطق القوة، هكذا يحاجج أصحاب هذا المنطق ويرون في سياقهم وخيارهم هذا، عزة وحمية وقوة، في قبال هذا المنهج، يعبر حكيم النجف عن سياق ومنهج اخر، اختبر خلال العشرين عاما المنصرمة، وأثبتت الأيام نجاعة هذا المنهج وبعد نظر المرجع وإلمامه الكبير بالمشكلات، وتوافره على رؤية عميقة وسليقة فكرية وفقهية راجحة، جعلت منهجه أجدى وأكثر نجاعة وتقدما على مناهج الاخرين.
لم تأت دعوة السيستاني المتكررة إلى التعايش السلمي بين المختلفين في العقائد والأفكار والديانات، انصياعا لواقع اختلت فيه التوازنات ورجحت فيه كفة الخيارات العنيفة، ولم يذعن المرجع الاعلى لمنطق القوة المهيمن على علاقات الشعوب والدول، بل والحضارات والأديان، فاختار تحاشي الصدام مع الحضارة الغربية تبعا لحسابات موازين القوى، إنما جاء ذلك نتيجة بحث معمق في قاعدة الالزام منذ عام 1987، ففي رمضان من ذلك العام واثناء الانتهاء من تقرير نتائج هذه القاعدة في العلاقات بين المتطابقين مذهبيا أو المختلفين دينيا ومذهبيا، انتهى السيد السيستاني إلى القول بان الإلزام وحده لا يكفي لضمان احترام كل طرف لحقوق الطرف الآخر بما التزم به الطرف الاول قانونيا وعرفيا، بل لا بد من قاعدة أوسع تسع المختلفين سماها ضرورة التعايش السلمي والسعي المشترك للحفاظ على سلم الناس بالاحترام المتبادل لمعتقدات وضرورات المختلفين (محمد علي الرباني، تقريرات بحث السيد السيستاني عن قاعدة الالزام، طبعة محدودة)، بغير ذلك يسود العنف والتكاره ويتضاءل التسامح بين الناس، كون البشر ميالين بأطباعهم إلى إشباع حاجات الاحترام والتقدير أيا كانت طبيعة معتقداتهم وأنهم يلجؤون إلى رد الفعل العنيف، دفاعا عما يمس كرامتهم ومعتقداتهم.
تشير الأبحاث النفسية إلى أن معتقدات الأفراد تؤثر كثيرا في اثارة وتقييد الصراع بين الجماعات البشرية، وأن الأنماط المعرفية الراسخة، التي يفسر بموجبها الناس الأحداث من حولهم، هي التي تحكم المشاعر والسلوكيات، وهذا ماسماه العالمان الزوجان (ايدلسون Eidelson 2003) بالإشكالية المدمرة، بينما انتهى (كليتنر روبنسون 1996)الى نتيجة مفادها بأنه لا توجد قوة اكثر خطورة في العلاقات الاجتماعية من العقل البشري، فقدرات الناس على تصنيف وتفسير المعلومات تؤدي بسهولة إلى القوالب النمطية، التي قد تجرد الانسان من إنسانيته، بسبب تشوه المعتقدات أو التحيزات الذاتية، إن أساليب الإدراك والتفكير قد تتسبب بمشكلات كثيرة، فحينما يفهم الناس عوالمهم بواسطة قوالب معرفية مستقرة، فإنها تنتج نظامًا من التوقعات والتفسيرات حول الذات والبيئة والمستقبل، يحمل الفرد والجماعة معتقدات أساسية تفسر له /لها العالم الذي يعيش فيه، وقد انتهى (كيلمان 1997) إلى القول بأن الاحتياجات والمخاوف الجماعية المتعلقة بالهوية والامن والعدالة هي المحرك الأكثر تحفيزا للصراعات والنزاعات بين الجماعات، ويذهب (ارفين ستوب 1989) إلى أن الحسابات الخاطئة، التي تولد الصراع، تصبح اكثر احتمالا عندما يحل الاعتماد على وجهات النظر العالمية الشائعة محل الواقع الموضوعي، كأساس للحكم على نوايا وسلوكيات الآخرين بشكل عام، ويقرر علماء النفس السياسي بأن الحرب ليست سوى نتيجة للتحيزات المعرفية وأنظمة المعتقدات، التي تحد من قدرة البشر على الثقة والتعاون الدوليين (بروير وميلر 1996).
لقد تم فحص خمسة مجالات اعتقاد هي التفوق والظلم والضعف وعدم الثقة والعجز، وتبين أنها أفكار ومسببات خطيرة تدفع الجماعات نحو الصراع، فشعور الجماعة – والفرد عضوا في الجماعة- اية جماعة- بأنها تحمل إحدى هذه المعتقدات جزءا من ثقافتها العامة، يقود إلى تفجر صراعات وأشكال من الخصومة والنزاع، صحيح أن الدوافع المادية والمصالح هي المحركات الاساسية لكل تنازع وتنافس وصراع، لكن الأمم تتصارع ايضا دفاعا عما تعتقده وتشعر به، من تهديدات ضد ديانتها وكرامتها وخصوصياتها وتاريخها.
في ضوء ذلك نستشعر أهمية تأكيد السيد السيستاني في رسالته إلى الحبر الأعظم على الوقوف بوجه الظلم والطغيان والدفاع عن حقوق المضطهدين في العالم ومنع التعدي على الحقوق، لأن غياب العدالة الاجتماعية وانتشار المظالم والاضطهاد الديني والقمع الفكري، هي المسبب في ظهور التطرف والحركات المتطرفة.
وإن معالجة الانحدار نحو البهيمية والتغلب على مشكلات الحضارة المعاصرة، يتطلب اعلاء القيم الروحية والمشتركات الإنسانية والتمسك بالإيمان والقيم الاخلاقية السامية والحفاظ على كيان الأسرة والقيم الفطرية واحترام الكرامة البشرية بلا تعصب أو تطرف، وهذه هي الرسالة البالغة التي تضمنها خطاب المرجع الاعلى إلى العالم الخارجي قبل أن تكون جوابا مهذبا إلى رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، حيث يتربع الغرب اليوم على رأس الحضارة المعاشة ويصدر منتجاته الفكرية والايديولوجية والقيمية إلى العالم بأسره، ورسالة المرجع هي دعوة ومنهج للتفكير وبناء السياسات وصنع السلام في قبال دعوات الانفعال والغضب الجامح والعنصرية المستشرية والكراهية السائدة، لا شك أن المعني بها كثيرون، وأولهم اتباع النجف ومستمعوها والمتأثرون بخطابها الحكيم البليغ والناقدين لها، وربما الناقمون عليها من ذوي الحماسة الكبيرة، هي دعوة إلى الآخرين لبناء السلام ومقاومة البغي والعدوان بقوة المنهج وامتلاء الخطاب بمصفوفة القيم العالية.
ابراهيم العبادي
جريدة الصباح